مريم تستمع ومرتا تخدم (لوقا 10: 38-42)

الأب لويس حزبون

يولي لوقا الإنجيلي اهتماما خاصا للمهمشين في الحياة الاجتماعية في لفلسطينية كالنساء. فيصف انجيله (لوقا 10: 38-42) اختي لعازر: “مرتا” العاملة المنصرفة الى الخدمة و”مريم” المـتأملة الجالسة عند قدمي يسوع مثل التلميذ. يدعو يسوع من خلالهما المؤمن للعودة بالصلاة والعمل الى ما هو جوهري. ينطلق التلميذ من يسوع ويعود الى يسوع؛ ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.
اولا: وقائع النص الإنجيلي (لوقا 10: 38-42)
38وبَينَما هُم سائرون، دَخَلَ قَريَةً فَأَضافَتهُ امَرَأَةٌ اسمُها مَرتا.
تشير عبارة “سائرون” الى ذاهبون إلى أورشليم؛ أمَّا عبارة ” قَريَةً ” فتشير الى بيت عنيا بحسب انجيل يوحنا (11:1). بيت عنيا اسم آرامي בֵּית־הִינִי معناه ” بيت البؤس او البائس”. وهي قرية تقع الى الجنوب الشرقي من جبل الزيتون على بعد 3.2 كم عن اورشليم على طريق القدس أريحا (يوحنا 12: 1-3). وتدعى الآن العازرية نسبة الى لعازر اخ مريم ومرتا، حيث كان يسوع يتردد اليها مرارا عديدة ولا سيما في أيامه الأخيرة قبل الآمه وموته (لوقا 19: 29). وفيها كان يقضي يسوع ليلته مع التلاميذ بعد تعليمه في الهيكل (مرقس 11: 11)، وفيها أحيا يسوع لعازر صديقه من الموت (يوحنا 11: 1)، وفيها دهنت مريم يسوع بالطيب في بيت سمعان الابرص (مرقس 14: 3). اما عبارة “مَرتا” فنشير الى تلميذة يسوع التي تهتم بالخدمة (يوحنا 11: 20؛ 12: 2).
39وكانَ لَها أُختٌ تُدعى مَريم، جَلَسَت عِندَ قَدَمَي الرَّبِّ تَستَمِعُ إِلى كَلامِه.
تشير عبارة ” مَريم، جَلَسَت عِندَ قَدَمَي” الى موقف التلميذ (اعمال الرسل 22: 3). فمريم جالسة عند قدمي يسوع المعلم مثل التلميذ، وهيَ الَّتي “تَناولَت حُقَّةَ طِيبٍ مِنَ النَّارَدينِ الخالِصِ الغالي الثَّمَن، ودهَنَت قَدَمَي يسوع ثُمَّ مَسَحَتْهما بِشَعرِها. فعَبِقَ البَيتُ بِالطِّيب”(يوحنا 12: 3).
40وكانَت مَرتا مَشغولَةً بِأُمورٍ كَثيرَةٍ مِنَ الخِدمَة، فأَقبلَت وقالت: ((يا ربّ، أَما تُبالي أَنَّ أُختي تَرَكَتني أَخدُمُ وَحْدي؟ فمُرها أَن تُساعِدَني))
تشير عبارة ” فأَقبلَت” الى حركة عصبية من مرتا كما يدل تذمرها وشكواها؛ أما عبارة “يا ربّ، أَما تُبالي أَنَّ أُختي تَرَكَتني أَخدُمُ وَحْدي؟” فتشير الى عدم تمالك مرتا نفسها بحيث وجهت اللوم ليسوع وانتهرت مريم بطريقة غير مباشرة.
41فأَجابَها الرَبُّ: ((مَرتا، مَرتا، إِنَّكِ في هَمٍّ وارتِباكٍ بِأُمورٍ كَثيرَة، 42مع أَنَّ الحاجَةَ إِلى أَمرٍ واحِد. فَقدِ اختارَت مَريمُ النَّصيبَ الأّفضَل، ولَن يُنزَعَ مِنها)).
تشير عبارة ” أَمرٍ واحِد ” إلى شيء واحد وهو ما اختارته مريم فكان لها النصيب الأفضل. يسوع بحاجة الى طعام بسيط وليس الى مائدة زاخرة بالطعام. تشير عبارة “الأّفضَل” الى التقدير عند يسوع للشركة أكثر من الضيافة. اما عبارة ” لَن يُنزَعَ مِنها ” فتشير الى محبة المسيح التي تدوم وتثبِّت في قلب الإنسان، هنا على الأرض وهناك في السماء. أما الأطعمة او الماديات عمومًا فهي زائلة، فإمَّا نتركها ونمضي بالموت، أو تزول هي عنا. لذا يوصى يسوع بالابتعاد عن الهم والارتباك وذلك بعدم الاهتمام بالأكل والشرب (لوقا 12: 22 و31).

ثانياً: تطبيق النص الانجيلي (لوقا 10: 38-42)
انطلاقا من هذه الملاحظات الوجيزة حول وقائع النص الإنجيلي (لوقا 10: 38-42) نستنتج انه يتمحور حول استقبال مريم ومرتا ليسوع في بيتهما. مريم استقبلته بالاستماع إليه فأصبحت مثال من يتفرغون لسماع كلمة الله ومرتا استقبلته بالضيافة وأصبحت مثال من يخدمون يسوع.
1) مريم والاستماع لكلمة الله
مريم اسم عبري מִרְיָם معناه “عصيان” وهي اخت لعازر ومرتا من سكان بيت عنيا (يوحنا 11: 1)، وهي التي دهنت يسوع بالطيب في بيت عنيا قبل آلامه بأسبوع (يوحنا 12: 1-3). وأدركت سر دفن يسوع وقيامته (مرقس 14: 8).
وكانت مريم حسّاسة وتأملية، ولها قلب مُحبٌ للرب يسوع، ودخلت في شركة الحياة معه، إذ كانت تجلس عند قدميه لتستمع الى كلامه على مثال التلميذ في العادات اليهودية القديمة (لوقا 8: 35). فالجلوس يُسهِّل الاصغاء، فجلست عند قدمَي المعلم، وهي صامتة تصغي بكليتها إلى كلمته. ومرتبطة به. فكانت مريم منشغلة بيسوع نفسه لا بما تقدمه ليسوع. ولا تريد ان تنشغل باي شيء سواه. وقد ركَّزت عينيها واذنيها على يسوع وحده. فلم يغدق يسوع عطاياه على مريم أكثر من مرتا بل مريم هي من اختارت النصيب الأفضل، بقرار حر واعي.
ويعلق القديس ايرونيموس بقوله “كوني كمريم تفضِّلين طعام النفس عن طعام الجسد. اتركي أخواتك يجرين هنا وهناك ليدبِّرن بلياقة كيف يستضفن المسيح، أما أنتِ فإذ تتركي ثِقل العالم اجلسي عند قدميْ الرب، وقولي له: “وجدت من تحبُّه نفسي، فأمسكتُه ولم أرْخه” (اناشيد الأناشيد 3: 4) هكذا لم يترك الرسل كلمة الله ليخدموا الموائد (أعمال الرسل 6: 2).
وعليه فان يسوع شهد لها أنها قد اختارت النصيب الأفضل (لوقا 10: 41. 42)، اختارت النصيب الصالح، وأن هذا النصيب الصالح هو نصيب مع المسيح. كان المسيح لها هدفها الأسمى. وهذا هو الامر الواحد الذي لمّح عنه يسوع والذي نحن بحاجة اليه، إنه القلب المتفرد المكرس الذي يجعل المسيح هدفه الأول في كل صلاة او خدمة؛ ومن هنا أهمية ان يسمع الانسان الى كلمة الله فستمع الله إليه.
أ) الإنسان يستمع الى الله
يقوم الوحي في القاء كلمة الله للإنسان، فينتج الايمان من السماع كما جاء في تعليم بولس الرسول” كَيفَ يُؤمِنونَ بِمَن لم يَسمَعوه؟ فالإِيمانُ إِذًا مِنَ السَّماع ” (رومة 10/ 17). ولم يتردد موسى النبي في تشجيع الشعب على السماع بقوله “اسمعوا ” (تثنية الاشتراع) كذلك عاموس النبي (عاموس 3: 1) وارميا النبي (ارميا 7: 2). ولم يتردد يسوع في ترديد نفس الكلمة “اسمعوا ” (مرقس 4: 3).
إن سماع كلمة الله שְׁמַע في اللغة العبرية وقبولها لا يعني الاستماع إليها بأذن صاغية فحسب، بل يتضمن فتح القلب لها أيضاً كما حدث مع ليديا في مدينة فيلبي “كانَت تَستَمِعُ إِلَينا امرَأَةٌ تَعبُدُ الله، اِسمُها لِيدِية وهِي بائعَةُ أُرجُوانٍ مِن مَدينةِ تِياطيرة. ففَتَحَ الرَّبُّ قَلبَها لِتُصغِيَ إِلى ما يَقولُ بولُس”(أعمال 16: 14) والعمل بها كما صرّح يسوع “مَثَلُ مَن يَسمَعُ كَلامي هذا فيَعمَلُ به كَمَثَلِ رَجُلٍ عاقِلٍ بَنى بيتَه على الصَّخْر”(متى 7: 24)، والطاعة لها. تلك هي طاعة الإيمان التي يتطلبها سماع البشارة ” بِه نِلْنا النِّعمَةَ بِأَن نَكونَ رسولاً، فنَهدِيَ إِلى طاعَةِ الإِيمانِ جَميعَ الأُمَمِ الوَثَنِيَّة، إِكرامًا لاسمِه ” (رومة 1: 5).
ولكن عندما لا يريد الإنسان أن يسمع يقع في مـأساة (تثنية 18: 16 و19). يصمّ عن نداءات الله ويغلق الأذن والقلب (أعمال 7: 51). وتلك هي الخطيئة التي واجهها يسوع عند اليهود فقال لهم ” لِماذا لا تَفهَمونَ ما أَقول؟ لأَنَّكُم لا تُطيقونَ الاستِماعَ إِلى كَلامي… مَن كانَ مِنَ اللهِ استَمَعَ إِلى كَلامِ الله. فإِذا كَنتُم لا تَستَمِعونَ إِلَيه فَلأَنَّكُم لَستُم مِنَ الله” (يوحنا 8: 47 و43). إن الله وحده هو الذي يستطيع أن يفتح أُذن تلميذه كما جاء في نبوءة اشعيا “السَّيِّدُ الرَّبُّ فَتَحَ أُذُني”(اشعيا 50: 5) لكي يطيع (مزمور 40: 7-8). ولذلك لدى مجيء المسيح يفهم الشعب كلمة الله ويطيعها (متى 11: 5). وهذا ما يعلنه صوت السماء للتلاميذ: ” هذا هَو ابنيَ الحَبيبُ الَّذي عَنهُ رَضيت، فلَهُ اسمَعوا ” (متى 5:17). وكانت مريم، ام يسوع نموذجا في سماع كلمة الله وحفظها كما ورد في انجيل لوقا “كانَت مَريمُ تَحفَظُ جَميعَ هذهِ الأُمور، وتَتَأَمَّلُها في قَلبِها”(لوقا 2: 19)، فاستحقت الطوبى من فم يسوع ابنها “: ” طوبى لِمَن يَسمَعُ كَلِمَةَ اللهِ ويَحفَظُها! ” (لوقا 11: 28).
ب) الله يستمع الى الانسان
عندما يستمع الانسان لكلمة الله يستمع الله بدوره للإنسان ويستجيب له. والله يسمع للصدّيقين، وللذين يتّقونه ويعملون بمشيئته ” كما صرح الرجل الاعمى الذي شفاه يسوع “نحنُ نَعلَمُ أَنَّ اللهَ لا يَستَجيبُ لِلخاطِئين، بل يَستَجيبُ لِمَنِ اتَّقاهُ وعَمِلَ بِمَشيئتِه” (يوحنا 9: 31،) ” وللذين يسألونه شيئاً موافقاً لمشيئته كما جاء في تعليم يوحنا الرسول “الثِّقةُ الَّتي لَنا بِه هي أَنَّه إذا سأَلْناه شَيئًا مُوافِقًا لِمَشيئَتِه استَجابَ لَنا” (1 يوحنا 5: 14). فالله يستجيب نظراً لاستجابته في كل حين لابنه يسوع “عَلِمتُ أَنَّكَ تَستَجيبُ لي دائِماً أَبَداً” (يوحنا 11: 42)، الذي عن طريقه َتمرُّ دائماً وأبداً صلاة المسيحي.
1) مرتا والخدمة
مرتا كلمة أراميه “מָרְתָא” معناها ربة، وكانت اخت لعازر ومريم، وكانت عملية ونشيطة وامينة في خدمتها وتتهتم بإعداد الطعام وتدبِّر اشغال البيت، وتهتم بالاستقبال الشخصي ليسوع. وكانت تتحمس كثيرا الى خدمته الى درجة الارتباك عكس ما علم الرب” وهكذا أَنتُم، إِذا فَعَلتُم جميعَ ما أُمِرتُم بِه فقولوا: نَحنُ خَدَمٌ لا خَيرَ فيهِم، وما كانَ يَجِبُ علَينا أَن نَفعَلَه فَعَلْناه “(لوقا 17: 10)، إذ اعترضت على اختها مريم على تركها لها وحدها تعمل. فمرتا امتازت بالخدمة.
تدل الخدمة في الكتاب المقدس على خضوع الانسان لله. وهذا الخضوع يرتبط بتحريره. إن الخدمة التي يطلبها الرب لا تقتصر على العبادة الطقسية، ولكنها تمتدّ الى الحياة كلها بالطاعة لوصاياه كما جاء في تعليم الانبياء ” إِنَّ الطَّاعةَ خَيرٌ مِنَ الذَّبيحة” (1 صموئيل 15 22). وقد جاء يسوع ليَخدم الناس ويُعلن عن الحب الذي وحده يعطي الخدمة كرامتها وقيمتها “لِيَعرِفَ العالَمُ أَنِّي أُحِبُّ الآب وأَنِّي أَعمَلُ كما أَوصاني الآب” (يوحنا 14: 31).
وعندما يخدم يسوع الله إنما يخلص البشر، إذ يكفّر عن رفضهم للخدمة، ويكشف لهم عن كيفية الخدمة التي يريدها الآب. فهو يريد ان يبذلوا ذواتهم في سبيل خدمة إخوتهم، كما صنع يسوع نفسه” لأَنَّ ابنَ الإِنسانِ لم يَأتِ لِيُخدَم، بل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفْسِه جَماعةَ النَّاس” (مرقس 10: 45) “فأَنا بينَكم كالَّذي يَخدُم.”(لوقا 22: 27).
وعليه فان الخدمة قبل كل شيء هي خدمة “الكلمة” (اعمال الرسل 6: 4) والمؤمنون يخدمون الكلمة كأبناء وليس كعبيد (غلاطية 4) لأنهم يخدمون في نظام الروح الجديد (رومة 7: 6) الذي نقلهم من حالة عبيد الى حالة أحباء المسيح “لا أَدعوكم خَدَماً بعدَ اليَوم لِأَنَّ الخادِمَ لا يَعلَمُ ما يَعمَلُ سَيِّدُه. فَقَد دَعَوتُكم أَحِبَّائي لأَنِّي أَطلَعتُكم على كُلِّ ما سَمِعتُه مِن أَبي” (يوحنا 15: 15).
لذلك أراد يسوع يريد ان يوجّه مرتا نحو مفهوم الخدمة، لان الأمور المادية إذا زادت لن تترك الانسان ان يختار، بل يعيش الانسان في هموم واضطراب وارتباك. فمرتا أغفلت “الامر الواحد”. ولم تركِّز افكارها على “الامر الواحد” اللازم مثل اختها مريم؛ والنتيجة أنها أُرهقت بالخدمة، وتضايقت من أختها، ثم تذمرت واشتكت للرب. فأراد يسوع ان يوجّه مرتا نحو “الامر الواحد” الذي كانت في حاجة إليه، وهذا “الامر الواحد” هو يسوع المسيح نفسه، فهو حاجتنا كما يقول صاحب المزامير ” إِليكَ صَرَختُ يا رَبِّ قُلتُ: ((أَنتَ مُعتَصَمي في أَرضِ الأَحْباءِ أَنتَ نَصيبي” (مزمور 142: 6) “ومَن لي في السَّماء؟ ومعكَ على الأرضِ لا أَهْوى شيئا” (مزمور 73: 25).
2) حكم يسوع
جُعل يسوع حكماً بين الأختين مريم ومرتا بناء على طلب مرتا. ماذا سيختار؟ الخدمة أم الاستماع؟ العمل ام الصلاة؟ جاء جواب يسوع وكأنه لغز… إختارت مرتا أموراً كثيرة. اختارت الكمية. أما مريم فاختارت ما هو فريد. وهذا الفريد هو “الامر” الضروري الوحيد. اختارت مريم النصيب الصالح كما توضح الكلمات اليونانية τὴν ἀγαθὴν μερίδα . فالنص لا يقابل بين مرتا ومريم ليقول أيهما أحسن. ولا يعارض بين خيار صالح وخيار أفضل. لكن، في الواقع، دُعيت الأختان إلى خيار واحد، وهو خيار مريم الذي اختارت يسوع. لم يغدق يسوع عطاياه على مريم أكثر من مرتا بل مريم هي من اختارت النصيب الأفضل، بقرار حرٍ وواع،ٍ وهو الأصغاء الى كلمة الرب يسوع والدخول في شركة حياة معه.
ونصيب مريم “لن ينزع عنها” لان عذوبة الحق أبديَّة، لن ينزع منها، لا بل في هذه الحياة يزداد لها، وفي الحياة الأخرى يكمل لها ولا ينزع عنها. اما نصيب مرتا في وقت أو آخر ثِقَل الواجبات الضروريَّة فيُنزع عنها، لأن الخدمات الجسديَّة لا يمكن أن تبقى مع الإنسان أبديًا. الخير الأعظم لا يكمن في الأعمال في ذاتها مهما بلغ شأنها، وإنما في الشركة مع الرب، الذي هو بالحقيقة هو “الأمر الواحد” الذي لا يمكن أن يُنزع عنها.
وعليه فإن يسوع لم يلم مرتا على اهتمامها بأمور البيت والضيافة، ولم يوبّخها على خدمتها، لكنه كان يوجّهها لتضع أولويات في خدمتها، لأنها انشغلت عن الرب يسوع نفسه في وسط خدماتها الكثيرة. يسوع يحاور مرتا كما فعل مع تلميذي عماوس، محاولا أن يفهمها وينير ذهنها ويحملها على الصبر، لتنموا في نعمة الايمان في الاختيار وهو المثول أمام المسيح كلمة الله الحي وتستقبِله كضيف، تهتم فيه أكثر من اهتمامها بما ستقدّم له. وبيّن لها أنها بحاجة بالدرجة الأولى إلى الجلوس عند قدميه لتعرفه فتمتلئ سلامً فيزول ارتباكها. فالواحد الذي تحتاجه هو المسيح، هو موضوع إيماننا الأول والأخير “إِنَّ يسوعَ المَسيحَ هو هو أَمْسِ واليَومَ ولِلأَبَد. انه ” جاءَ إِلى بَيتِه. فما قَبِلَه أَهْلُ بَيتِه. أَمَّا الَّذينَ قَبِلوه وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِه فقَد مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله” (يوحنا 1: 11-12)، والرب لا يزال ينتظرنا بالفقراء والمرضى والأسرى إذ يقول: ” الحَقَّ أَقولُ لَكم: كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه ” (متى 25: 40).
ومن هنا نفهم أنَّ مريم ومرتا كانتا تُكملان بعضها البعض في خدمة يسوع. فلا يجب ان نظل في عُزلة دون خدمة للرب الذي أحبنا وبذل نفسه لأجلنا، ولا ينبغي ان نترك الخدمة تُشغلنا عن الرب يسوع نفسه كما قال أحد الإباء قديماً” لقد خدمت كثيراً بيت الرب فمتى تخدم ربّ البيت”، “فهذا ما كانَ يَجِبُ أَن تَعمَلوا بِه مِن دونِ أَن تُهمِلوا ذاك” (متى 23: 23). الامر الواحد المطلوب سواء خدمنا او صلينا ان لا ننسى الرب وتكريسنا له. ما يريده المسيح هو التعقل. لا نترك هذا ولا نهمل ذاك. المسيح يريدنا أن تكون لنا خلوتنا ولكن ليس على حساب الخدمة، ويكون لنا خدمتنا ولكن ليس على حساب خلوتنا، فالمطلوب هو التوازن.
وعليه فإن المسيحي يحمل في نفسه مريم ومرتا، فلا عمل خارج حياة الصلاة والشركة مع الله، ولا حياة صلاة وشركة صادقة بلا عمل! ولكن يلزم على الأول وسط عمله أن يتمتَّع بنصيب من الحياة التأمُّليَّة اليوميَّة حتى لا ينحرف في عمله، ويليق بالثاني أن يُمارس محبَّته بالعمل.
ولا يعارض لوقا الإنجيلي بين حياة الصلاة والحياة العمل، وكأن الواحدة تتفوّق على الأخرى. بل هو يقول على كل مؤمن أن يختار الشركة مع الرب في الصلاة او في العمل. وهذا ما يوحيه النص الإنجيلي. فالصورة الرائعة ليسوع في بيت مريم ومرتا تأتي ملحقا لمثل السامري الرحيم. فالعمل الرحمة ليس كافياً، انما يجب ان يقترن بالشركة مع الرب. وهذا هو النصيب الأفضل الذي اختارته مريم.
وبدون الشركة مع الرب يمرُّ الانسان مثل مرتا في مشاكل نفسية، كالقلق والاضطراب لكثرة الأمور التي ينشغل بها، وهذا كان يسبب لها الضيق والتذمر، الغيرة والغضب، مراقبة الاخرين وادانتهم، والشعور بالنقص، ولوم وعتاب على الرب. لكن الشركة والعلاقة الحيَّة مع يسوع المبنية على ايمان فهي الأفضل، لأنه قد ينتزع منا كل شيء، الخدمة او القدرة على الخدمة، لكن من يستطيع ان ينتزع منا روح الرب الحي والساكن فينا، ومن يفصلنا عن حياة يسوع المتغلغلة الى عمق اعماقنا كما جاء في قول بولس الرسول” فمَن يَفصِلُنا عن مَحبَّةِ المسيح؟ أَشِدَّةٌ أَم ضِيقٌ أَمِ اضْطِهادٌ أَم جُوعٌ أَم عُرْيٌ أَم خَطَرٌ أَم سَيْف؟ ” (رومة 8: 35).

خلاصة
ان النص الإنجيلي وضَّح العلاقة القائمة بين الصلاة والعمل، بين المناجاة والخدمة مُبينا أسس الخدمة ومفهومها الحقيقي. اننا نتعرّف على يسوع من خلال الصلاة والعمل على مثال مرتا ومريم. نتعرف عليه حين نخدم الأخوة على مثال مرتا، ونناجيه على مثال مريم. أحبّ يسوع مرتا التي استقبلته. وأحب مريم التي أستمعت إليه. فعلى مريم أن تتعلّم كيف تستقبله. وعلى مرتا أن تعرف كيف تجلس لتستمع إليه. الصلاة تقودنا إلى العمل، والعمل ينبع من الصلاة. هذا ما يدعونا إليه يسوع. إنه النصيب الأفضل الذي لا يُنتزع منا.
مرتا مثال لنا في لضيافة، والضيافة واجب ” كُونوا لِلقِدِّيسينَ في حاجاتِهِم مُشارِكين وإِلى ضِيافةِ الغُرَباءِ مُبادِري.”(رومة 12: 13) ويجب ان تكون الضيافة بدون تذمر “لِيُضِفْ بَعضُكم بَعضًا مِن غَيرِ تَذمُّر،” (1 بطرس 4: 9) لان من يضيف المسيح، يُضيف الله “مَن قَبِلَكم قَبِلَني أَنا، ومَن قَبِلَني قَبِلَ الَّذي أَرسَلَني. ” (متى 10: 40). والضيافة تَردّ بالخير على المضيف. كما جرى مع المرأة الشُونميّة التي اضافت اليشاع، (2ملوك 4: 8-37). وزكا العشار الذي أضاف يسوع (لوقا 19: 1-10).
اما مريم فهي متال حياة الصلاة والتأمل، لأنها عرفت ان تجلس عند قدمي الرّب يسوع، وتستمع إلى كلماته العذبة. قد تبدو وكأنّها لا تقدّم شيئًا، لكنّها تقدّم أكثر من مرتا التي تنشغل بأمور كثيرة. فمرتا كانت منشغلة بما تقدمه ليسوع ولم تكن منشغلة بيسوع نفسه كما كانت مرين اختها. إن الرّب يسوع لم يلم أبدًا أعمال مرتا إنما يريد فقط أن يصحّح القلق لديها. فالحاجة هي امر واحد اساسي وهو التعلق بيسوع ودخول بالشركة معه وتعميق علاقتنا به. يسوع جوهر الخدمة، والمصدر الذي نستمد منه قوتنا؛ فالشركة مع يسوع هي نقطة الارتكاز للعمل ورفع العالم.

دعاء
علمنا يا رب ان نستقبلك في حياتنا فنصغي الى كلمتك مثل مريم ونعمل لأجلك مثل مرتا فتكون انت نصيبنا الأفضل الذي لا يُنزع منا.