عيد الظهور الإلهي

الأب لويس حزبون

عيد الغطاس يشيد بثلاث ظهورات: ظهور يسوع للأمم، التي يرمز إليها المجوس الذين جاؤوا إلى بيت لحم (متى 2) وظهوره للجموع لدى اعتماده على يد يوحنا المعمدان في نهر الاردن (متى 3: 16-17) وظهوره في معجزة عرس قانا الجليل بتحويل الماء خمرا (يوحنا 2: 1-12). وينفرد متى الإنجيلي بوصف قدوم المجوس من المشرق وسجودهم ليسوع المسيح ملكا وربا والها على كل العالم، وليس على اليهودية فقط. فدعوة المسيح الى الخلاص غير مقتصرة على اليهود، انما هي موجّهة الى جميع شعوب الأرض. ويذكر بولس الرسول ان “هذا السِّرَّ الَّذي لم يُطْلَعْ علَيه بَنو البَشَرِ في القُرونِ الماضِية وكُشِفَ الآن في الرُّوحِ إِلى رُسُلِه وأَنبِيائِه القِدِّيسين، وهو أَنَّ الوَثَنِيِّينَ هم شرَكاءُ في المِيراثِ والجَسَدِ والوَعْد في المسيحِ يسوع، ويَعودُ ذلِك إِلى البشارةِ “(أفسس3: 5-6). وعليه فان عيد الغطاس يُشغِل كلّ من يَهُمُّهم أمرُ المسيح؛ ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص الانجيلي وتطبيقاته.
أولا: وقائع النص الإنجيلي (إنجيل متى 2: 1-12)
1ولمَّا وُلِدَ يسوعُ في بَيتَ لَحمِ اليهودِيَّة، في أيَّامِ المَلِكِ هيرودُس، إِذا مَجوسٌ قدِمُوا أُورَشليمَ مِنَ المَشرِقِ” : تشير عبارة “وُلِدَ يسوعُ في أيَّامِ المَلِكِ هيرودُس ” الى ان يسوع ولد خلال السنة الأخيرة من حكم هيرودس، أي قبل وفاته كما ورد في أنجيل متى “فأَقامَ هُناكَ إِلى وَفاةِ هيرودُس” ( متى 2: 15). ثم ذهب يوسف الى الناصرة، متجنباً بيت لحم حيث أصبح أرخلاوس، وهو أحد ابناء هيرودس، واليا (متى 2: 2). ومعروف لدى الجميع ان العصر المسيحي، كما حدده ديونيسيوس الأصغر في القرن السادس، يتضمن خطأ حسابياً، ويبدأ في الواقع بعد أربع سنوات من ولادة يسوع أي في أثناء حكم هيرودس الكبير وقبل وفاته. اما عبارة” بَيتَ لَحمِ اليهودِيَّة ” فتشير الى مدينة بيت لحم التي تقع على تل يرتفع 600 م عن سطح البحر، وهي تبعد 8 كم جنوبي القدس. وقد أسماها التقليد الكتابي “مدينة داود” لأنه فيها قد مسح داود ملكا وولد فيها (1 صموئيل 16: 4). وحسب نبوءة ميخا فيها المكان الذي يولد المسيح (ميخا 5:1). لكنها لم تكن موطن يوسف ومريم بل الناصرة بلدتهما الاصلية. كما ان بيت لحم اليهودية هي غير بيت لحم في زبولون في الجليل (أشعيا 19: 15). ولم يذكر متى الإنجيلي عن حياة يسوع في الناصرة انما أراد ان يبرز علاقة يسوع ببيت لحم لِما لبيت لحم من صلة مع داود الملك (1صموئيل 16: 1) علما ان اليهود كانوا ينتظرون ان يُولد المسيح في بيت لحم ومن عشيرة داود كما ورد في انجيل يوحنا “أَلَم يَقُلِ الكِتابُ إِنَّ المَسيحَ هُوَ مِن نَسلِ داود وإِنَّهُ يأتي مِن بَيتَ لَحْمَ، القَريةِ الَّتي مِنها خَرَجَ داود؟” (يوحنا 7: 42). أمَّا عبارة “اليهودية” فتشير الى أحد مناطق فلسطين الأربع السياسية ايام المسيح؛ فكانت اليهودية في الجنوب، والسامرة في الوسط، والجليل في الشمال، وأدوم في الشرق. اما عبارة “هيرودس” فتشير الى هيرودس الكبير الذي كتب عنه المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيوس. وورد اسمه في العهد الجديد 9 مرات، فهو مضطهد المسيح وأطفال بيت لحم من ابن سنتين فما دون (متى (متى 2:16). وهيرودس لم يكن يهوديا بل ادوميّا. كان ابن انتيباتر، خازن يوحنا هركانوس الثاني من الاسرة الحشمونية. وُلد سنة 73 ق. م. وعيّنه الرومانيون سنة 47 قائداً لحرس الجليل. ثم قائد لحرس البقاع. وفي سنة 41 عيّن أمير الربع على اليهودية، وفي سنة 40 عيّنه مجلس الشيوخ الروماني ملكاً على اليهودية. استولى على اورشليم في سنة 37 وأباد الحشمونيين وحصل من القيصر أغسطس على طراخونيطس وباشان وحوران في شمال فلسطين. عُرف بمهارته السياسية وبكثرة المدن الهلنستية التي بناها وبدأ ببناء الهيكل سنة 19 ق. م. وتواصل العمل بعد موته حتى سنة 68 م. وقد جعله هذا العمل محبوبا عند كثيرين من اليهود. عُرف بقساوته، فقتل امرأته مريم وثلاثة من أبنائه (الإسكندر وأرسطوبولس، وأنتيباتر) وتوفي في سنة 4 ق. م، علما ان يسوع وُلد قبل وفاته بسنتين. يجعل متى الإنجيلي صلة بين هيرودس الملك ويسوع، مشيراً بذلك الى النزاع الذي سيقوم بين السلطات الرسمية والملك الحقيقي الذي سيخلص شعبه (متى 1: 21). أما عبارة “مَجوسٌ” فهي كلمة يونانية μάγος وتعني كهنة فرس، وسحرة ودعاة دينيين وعرّافين (سفر دانيال 2: 2). اما هنا فتدل على رجال حكماء منجِّمين كلدانيين من بابل، من بين النهرين لربَّما كانوا على صلة بالمسيحانية اليهودية. وقد إعتبرهم التقليد الشعبي ثلاثة ملوك مع ان النص الإنجيلي لم يذكر شيئا في هذا المجال. اما عبارة “أُورَشليم” فتشير الى مقر حكومة هيرودس الكبير الذي كان ملكا على المناطق السياسية الأربعة الواردة اعلاه. وعليه فان المجوس أتوا الى اورشليم القدس عاصمة اليهود ليبيّنوا لهيرودس الملك ان يسوع هو الملك الحقيقي.
2وقالوا: ((أَينَ مَلِكُ اليهودِ الَّذي وُلِد؟ فقَد رأَينا نَجمَه في المَشرِق، فجِئْنا لِنَسجُدَ لَه)). تشير عبارة “مَلِكُ اليهودِ” الى ان المجوس مع انهم كانوا من الوثنيين، رأوا في يسوع ملكاً لليهود، فجاؤوا يسجدون له. اما عبارة “أَينَ مَلِكُ اليهودِ الَّذي وُلِد؟ ” فهي صدى للانتظار المسيحاني اليهودي. اما عبارة “فجِئْنا لِنَسجُدَ لَه” فتشير الى ان يسوع المسيح الذي تنبذه سلطات الشعب في شخص هيرو دس الملك، تسجد له الأمم الوثنية الممثلة بالمجوس. اما عبارة “نَجمَه” فتشير الى اعتقاد التنجيم بان كل طفل يولد في ظروف نجم معين يسمى “نجمعه”. ويعتقد البعض ان النجم عبارة عن اقتران كواكب المشتري وزحل والمريخ في سنة 6 ق. م. وفي قصائد راس شمرا في سوريا ترمز نجمة الصباح الى الآهة. وفي نصوص قمران، يرد ذكر برج الملك المسيحاني المنتظر. وهذا يعني انه راجت في الأوساط اليهودية نظريات تسعى الى تحديد النجم الذي يولد تحته المسيح. وعليه فإن يسوع أهلٌ لسجود المجوس له بصفته ملكا مسيحيّاً إذ ان الكوكب في الشرق القديم يشير الى الاله وهي تحقيق لنبوءة بلعام عن كوكب يطلع من بني يعقوب (عدد 24: 15-17)؛ وبالتالي الى الملك المؤلّه (اشعيا 14: 12). فيسوع هو نور النجم إذ قال عن نفسه: ” أَنا نُورُ العالَم مَن يَتبَعْني لا يَمْشِ في الظَّلام بل يكونُ له نورُ الحَياة” (يوحنا 8: 12). اما عبارة “مِنَ المَشرِقِ” فتشير الى ما ورد في حزقيال النبي الذي يرى الرب يأتي من المشرق كالشمس (حزقيال 33: 21). اما عبارة” لِنَسجُدَ لَه” فتشير الى ان المجوس آمنوا بيسوع ملكا والهاً.
3فلمَّا بلَغَ الخَبَرُ المَلِكَ هيرودُس، اِضْطَرَبَ واضطَرَبَت مَعه أُورَشليمُ كُلُّها. تشير عبارة “اِضْطَرَبَ هيرودس” الى أنَّ هيرودس لم يكن الوارث الشرعي لعرش داود، بل استمد ملكه من الرومان. لذا كان طاغية شديد الحذر، وكان يخشى دوما ان يُنتزع منه المُلك. وكان يتصوّر ان المؤامرات تحاك حوله، مما دفعه الى قتل زوجته مريم وحماته وثلاثة من أولاده. وظنَّ انه إذا كان يسوع وارثا حقاً قد يصبح منافسا له على ملكه، ويقوم بانقلاب عليه. وهذا الامر دفعه الى قتل أولاد السنيتين وما دون في بيت لحم وضواحيها (متى 2: 16-18). ويقول يوحنا ذهبي الفم في هذا الصدد: ” لقد خشيَ هيرودس الملك أن ترجع المملكة إلى يهودي، فيطرده اليهود هو وذرّيته ويقطعونهم من الملوكيّة “. أما عبارة “اضطَرَبَت مَعه أُورَشليمُ كُلُّها ” لان الشعب اليهودي كان يتوقع مجيء المسيح (لوقا 3:5) وأغلب الشعب كانوا ينتظرون المسيح محرراً حربياً وسياسياً عظمياً. فلا عجب أن يأمر هيرودس بقتل جميع أطفال بيت لحم، ليكون آمنا من هذا الجانب. اما عبارة “أُورَشليمُ” فيه إشارة جغرافية مرتبطة بهيرودس الملك.
4فَجَمَعَ عُظَماءَ الكَهَنَةِ وكَتَبَةَ الشَّعْبِ كُلَّهم واستَخْبَرهم أَين يُولَدُ المسيح. تشير عبارة “عُظَماءَ الكَهَنَةِ ” الى الكهنة من الصدوقيين (متى 3: 7) المسؤولين عن شعائر العبادة في هيكل اورشليم. وأمَّا عبارة “كتبة الشعب” فتشير الى معلمي الشعب الذين كانوا يقرأون التوراة ويُفسّرونها وينسخونها. وهاتان الفئتان يمثلان رؤساء الشعب المسؤولون الحقيقيون عن مأساة يسوع (متى 21: 15). اما عبارة “المسيح” تعني الممسوح، إذ كان الملوك والكهنة اليهود يُمسحون كعلامة لتكريسهم وقد أعطتهم هذه الشعائر قداسة خاصة.
5فقالوا له: ((في بَيتَ لَحمِ اليَهودِيَّة، فقَد أُوحِيَ إِلى النَّبِيِّ فكَتب: تشير عبارة “بَيتَ لَحمِ” الى إشارة جغرافية جوهرية بالنسبة الى متى الإنجيلي، إذ ان وطن يسوع هو بيت لحم وان يوسف هو من اسرة داود الذي من بيت لحم. وان الخوف من هيرودس أرخلاوس هو الذي حمل يوسف ومريم على الذهاب الى الناصرة (متى 2: 22-23). اما الناصرة في الى انجيل لوقا فهي الأساسية.
6 ((وأَنتِ يا بَيتَ لَحمُ، أَرضَ يَهوذا لَسْتِ أَصغَرَ وِلاياتِ يَهوذا فَمِنكِ يَخرُجُ الوالي الَّذي يَرْعى شَعْبي إِسرائيل)). هذه الآية مقتبسة من ميخا الني (5: 1) من القرن السابع وتشير هنا الى نبوءة على بيت لحم على لسان مستشاري هيرودس للدلالة على أهميتها كمكان ميلاد الرب وعلاقة يسوع ببيت داود. وهنا يفكر ميخا النبي في أصول سلالة داود القديمة (1 صموئيل 17: 12). وقد فهم القادة الدينيون هذه الآية كتنبؤٍ عن ميلاد المسيح، وكذلك فهمتها الكنيسة الأولى.
7فدَعا هيرودُسُ الَمجوسَ سِرّاً وتَحقَّقَ مِنْهم في أَيِّ وَقْتٍ ظهَرَ النَّجْم. 8ثُمَّ أَرْسَلَهم إِلى بَيتَ لَحمَ وقال: ((اِذْهَبوا فابحَثوا عنِ الطِّفْلِ بَحْثاً دَقيقاً، فإِذا وَجَدْتُموه فأَخبِروني لأذهَبَ أَنا أَيضاً وأَسجُدَ له)). لم يُردْ هيرودس ان يسجد للمسيح، فقد كانت خدعة كاذبة كي يرجع اليه المجوس ويكشفوا له عن المكان الذي يوجد فيه الملك المولود ليقتله. كما أراد فرعون ان يقتل موسى، هكذا هيرودس أراد ان يقتل يسوع الذي هو موسى الجديد في نظر متى الإنجيلي (متى 5: 7). يقول القديس يوحنا الذهبي الفم” لكي يغري هيرودس المجوس تظاهر بالتقوى، مخفيًا السيف وراءها. رسم بالألوان شكل البساطة على حقد قلبه. هذا هو طريق كل فاعلي الشرّ، إذ يخطّطون في الخفاء ليجرحوا الآخرين، فيتظاهرون بالبساطة والصداقة”.
9فلمَّا سَمِعوا كَلامَ الَمِلكِ ذَهَبوا. وإِذا الَّنجْمُ الَّذي رأَوهُ في المَشرِقِ يَتَقَدَّمُهم حتَّى بَلَغَ المَكانَ الَّذي فيه الطِّفلُ فوَقفَ فَوقَه”. إن البحث والتنقيب دليل على الإيمان والرغبة في البحث عن الحقيقة للوصول إلى اليقين وقد يكون امتحان لإيمان المجوس واختبار لجديتهم، لذلك فإن تعبهم لم يذهب سدى لأن أملهم لم يفتر ورجاءهم لم يمت بل أثمر بظهور النجم من جديد، لذلك فرحوا فرحاً عظيما إذ اكتشفوا من خلال ظواهر الطبيعة الطفل يسوع.
10فلمَّا أَبصَروا النَّجْمَ فَرِحوا فَرحاً عَظيماً جِدّاً. 11وَدخَلوا الَبيتَ فرأَوا الطِّفلَ مع أُمِّه مَريم. فجَثَوا له ساجِدين، ثُمَّ فتَحوا حَقائِبَهم وأَهْدَوا إِليه ذَهباً وبَخوراً ومُرّاً”. تشير عبارة “الَبيتَ” الى بيت تقيم فيه العائلة وليس اسطبل كما كان الوضع لما زار الرعاة يسوع في المذود. اما عبارة “الطِّفلَ ” فتشير ان عمر الطفل يسوع عاما او عامين تقريباً عندما وجده المجوس. وفي ذلك الوقت كانت مريم ويوسف مقيمين في بيتٍ في بيت لحم (لوقا 2: 39). وجدوا الطفل مع امه مريم. يُذكر الطفل أولا ثم تُذكر امه. ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم “قبل رؤيتّهم الطفل كانت المخاوف والمتاعب تضغط عليهم من كل جانب، أمّا بعد السجود فحلّ الهدوء والأمان”. اما عبارة ” بَخوراً ومُرّاً” فتشير الى الثروات والعطور التقليدية في جزيرة العرب. (التكوين 37: 25). وكان اليهود الذين ينتظرون مجيء المسيح يرجون أن يتلقى الملك المنتظر إكرام جميع الأمم وتقادمهم (اشعيا 60: 6). أما عبارة “فجَثَوا له ساجِدين” فتشير الى جوهر العبادة الحقيقية بتكريم المسيح لشخصه والاستعداد لإعطائه كل ما هو ثمين. اما عبارة “ذَهباً وبَخوراً ومُرّاً ” فتشير الى تقدمات ثلاث تبرِّر الحديث عن ثلاثة اشخاص وهداياهم تعتبر كرمز لوظائف المسيح الثلاثة: ملك وكاهن ونبي. فالذهب هدية للمك، والبخور هدية لإله، واما المر فهو من العطور التي تقدم لشخص عند موته. ولعل تلك الهدايا ساعدت العائلة المقدسة لتدبير المال اللازم لرحلتها الى مصر والعودة منها.
12ثُمَّ أُوحِيَ إِليهِم في الحُلمِ أَلاَّ يَرجِعوا إِلى هيرودُس، فانصَرَفوا في طَريقٍ آخَرَ إِلى بِلادِهم.” بعد ان وجدوا الرب يسوع وسجدوا له لم يعودوا الى اورشليم بناء على تحذير من الله. ويرى البابا غريغوريوس الكبير”إن هذا الطريق الجديد إنّما هو طريق الفردوس، الذي تلتزم النفس أن تسلكه خلال لقائها مع ربّنا يسوع.”.
ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 2: 1-12)
بعد دراسة وقائع النص الإنجيلي نستنتج ان النص يتمحور في عيد الغطاس على ظهور المسيح للأمم الممثلة بالمجوس. ان يسوع المسيح المخلص لم يأت لليهود فقط بل لجميع الأمم. ومن هنا نتناول سؤالين: ما هو مفهوم الأمم في الكتاب المقدس؟ وكيف يفسر متى الإنجيلي خلاص الأمم من خلال قدوم المجوس وسجود هم ليسوع؟
1) مفهوم الأمم في الكتاب المقدس
يطلق اسفار العهد القديم على الأمم اللفظة العبرية “جوييم “ הַגּוֹיִם والتي تشمل معاً “من لا يعرفون الله” أي الوثنيين، ومن لا يشتركون في حياة شعبه أي الغرباء المقيمون الذين يمارسون الختان (خروج 12: 48) . اما شعب الله فيطلق عليه إسرائيل ويختص بالاختيار، والعهد، والوعود الإلهية. أما في العهد الجديد فإن مفهوم شعب الله يتطور وينفتح على كل البشر. إذ جاء المسيح ليجمع شمل إسرائيل والأمم في إنسان واحد جديد ” فإِنَّه سَلامُنا، فقَد جَعَلَ مِنَ الجَماعتَينِ جَماعةً واحِدة وهَدَمَ في جَسَدِه الحاجِزَ الَّذي يَفصِلُ بَينَهما ” (أفسس 2: 14). ويركز إنجيل متى اهتمامه على خلاص الأمم من خلال قدوم المجوس وسجودهم ليسوع (متى 2: 1-12) وبدء رسالته في “جليل الأمم” (متى 4: 15-16) وتوصية يسوع تلاميذه ببشارة الأمم “فاذهبوا وتلمذوا جميع البشر، وعلِّموهم أن يحفظوا كلّ ما أوصيتكم به” (متّى 20:28).
2) خلاص الأمم من خلال قدوم المجوس وسجودهم ليسوع (متى 2: 1-12)
ان رواية قدوم المجوس وسجودهم ليسوع ما هي الا تحقيق لنبوءات العهد القديم. يُظهر انجيل متى أن يسوع كان من طفولته ملكاً للأمم (متى 2: 1-11). فيذكر قدوم المجوس الى اورشليم (متى 2: 1) لتتعلم ناموس الله، فتكون العودة إلى السلام العالمي؛ وبهذا يؤكد متى الإنجيلي نبوءة اشعيا ان يسوع يحكم بين الأمم للسلام. “تَنطَلِقُ شُعوبٌ كَثيرةٌ وتَقول: هَلُمُّوا نَصعَدْ إِلى جَبَلِ الرَّبّ إِلى بَيتِ إِلهِ يَعْقوب وهو يُعَلِّمُنا طُرُقَه فنَسيرُ في سُبُلِه لأَنَّها مِن صِهْيونَ تَخرُجُ الشَّريعَة ومِن أُورَشَليمَ كَلِمَةُ الرَّبّ. وبَحكُمُ بَينَ الأُمَم ويَقْضي لِلشُّعوبِ الكَثيرة فيَضرِبونَ سُيوفَهم سِكَكاً ورِماحَهم مَناجِل فلا تَرفَعَ أُمَّةٌ على أُمَّةٍ سَيفاً”(اشعيا 2: 2-4).
ومنذ زيارة المجوس للملك هيرودس قام صراع قام بين الملك هيرودس ومن يحيط به من زعماء اورشليم الدينيين، ويسوع الملك الذي أبصر النور: فاليهود يرفضونه، والوثنيون يسجدون له، لأنَّ إيمانَ المجوسِ هو بمثابةِ إيمانِ الشعوبِ الوثنيّةِ. وهكذا تتحقق نبوءة اشعيا النبي لمَحَ جمهور الوثنيين يدخلون اورشليم المستنيرة بمجد الله “فتَسيرُ الأُمَمُ في نورِكِ والمُلوكُ في ضِياءِ إِشْراقِكِ” (اشعيا 60: 3). إن الأمم الممثلة بالمجوس تتّجه نحو الله الحي (اشعيا 45: 14-17)، وتشترك في عبادته (اشعيا 60: 1-16). والله جمع حوله الأمم وكل الألسن (اشعيا 66: 18-21). وجميع الشعوب تعترف به ملكاً، وكلهم يجتمعون مع شعب إبراهيم (مزمور 47)، والجميع ينعتون صهيون بلقب الأم (مزمور 87). وهكذا فلا بد وأن يجتمع مجدداً في اليوم الأخير، شعب واحد لله سوف يستعيد العالمية الشاملة الأولى. إن النبوءة تعود إلى السر الأصلي بتطلعات واسعة الآفاق.
ووجد متى الإنجيلي ايضا في النجم الذي استهدى به المجوس “فقَد رأَينا نَجمَه في المَشرِق (متى 2: 2) الكوكب الذي استهدى به الشعب في العهد القديم حيث تنبأ بلعام عن المسيح بدل ان يلعن إسرائيل على طلب بالاق بن صفور ملك مؤاب بقوله ” يَخرُجُ كَوكَبٌ مِن يَعْقوب ويَقومُ صَولَجانٌ مِن إِسْرائيل فيُحَطمُ صُدغَي موآب وجُمجُمةَ جَميعِ بَني شِيت ” (العدد 24: 17) والنجم في كلتا الحالتين يرمز الى المسيح الملك. ويقول أريجين بان المجوس قد احتفظوا بنبوءة بلعام واعترفوا بانها تحققت لدى رؤيتهم النجم الطالع. وقد أراد متى الإنجيلي ان يبيّن أيضا الشبه القائم بين بالاق وهيرودس. فكما حاول بالاق ملك موآب ان يقف حاجزا في وجه إسرائيل، كذلك حاول هيرودس هو أيضا ان يقف حاجزا في وجه المسيح، لكن المسيح انتصر فهو نور العالم والنور ينتصر على الظلام. كما ورد في تصريح سيدنا يسوع المسيح “جِئتُ أَنا إِلى العالَمِ نوراً فكُلُّ مَن آمَنَ بي لا يَبْقَى في الظَّلام”(يوحنا 12: 46) فالمسيح حقا كما حيّاه سمعان الشيخ “نُوراً يَتَجَلَّى لِلوَثَنِيِّين ومَجداً لِشَعْبِكَ إِسرائيل” (لوقا 2: 32).
كما أن الحوار بين المجوس وهيرودس ورؤساء الكهنة والكتبة، يُعلن أن يسوع كان تحقيقاً لنبوه ميخا عن ميلاد المسيح الملك في بيت لحم ” أَنتِ يا بَيتَ لَحمُ أَفْراتَة إِنَّكِ أَصغَرُ عَشائِرِ يَهوذا ولكِن مِنكِ يَخرُجُ لي مَن يَكونُ مُتَسَلِّطاً على إِسْرائيل وأُصوِلُه مُنذُ القَديم مُنذُ أَيَّامَ الأَزَل”(ميخا 5: 2). فالهدف من النبوءة هو إظهار يسوع داود الجديد الملك الذي يرعى شعبه فآمن به المجوس وسجدوا له، في حين اورشليم الممثلة في رؤسائها منذ البدء قد رفضته.
اما المجوس فيستحضر للذهن الوعود النبوية الواردة في مزمور “َحمِلُ المُلوكُ إِلَيكَ الهَدايا” (مزمور 68: 29) والوعد النبوي الوارد في مزمور “مُلوكُ تَرْشيشَ والجُزُرِ الجِزيَةَ يؤدُّون ومُلوكُ شَبَأَ وسبَأَ الهَدايا يقَدِّمون” (مزمور 72: 10). فيدعى المجوس ملوكا (اشعيا 60: 3) ويظهرون مسافرين على الإبل والجمال (اشعيا 60: 6). فالكتاب المسيحيون الأوائل جعلوا من المجوس يأتون من بلاد العرب كيتينس، او من بلاد فارس كأكليمنضوس الاسكندري، او من بابل كأرجين. وبكلمة أخرى فالمجوس هم وثنيون.
اما اهداء المجوس ليسوع “ذَهباً وبَخوراً ومُرّاً ” (متى 2: 10) فتشير الى تتميم نبوءة اشعيا في يسوع الرب “كُلُّهم مِن شَبَأَ يَأتون حامِلينَ ذَهَباً وبَخوراً يُبَشِّرونَ بِتَسابيحِ الرَّبّ” (اشعيا 60: 5-6). رأَوْا فلم يناقشوا، بل آمنوا، واعترفوا به بالهدايا الرمزيّةِ التي قدَّمُوها: بالبخورِ اعترفوا به إلهًا، وبالذهبِ قَبِلُوه مَلِكًا، وباللُبانِ آمنوا بموتِه. وفي هذا الصدد يقول البابا غريغوريوس الكبير “يقدّم الذهب كجزية الملك، ويقدّم البخور تقدمة لله، ويستخدم المرّ في تحنيط أجساد الموتى. لهذا أعلن المجوس بعطاياهم السرّيّة للذين يسجدون له بالذهب أنه الملك، وبالبخور أنه الله، وبالمرّ أنه يقبل الموت. ويمكننا أيضًا بهذه العلامات أن نفهم شيئًا آخر. الذهب يرمز للحكمة كما يشهد سليمان: ” في مَنزِلِ الحَكيمِ كَنزٌ شَهِيُّ” (أمثال 21: 20). والبخور الذي يُحرق أمام الله يرمز لقوة الصلاة كقول المزمور: “لِتَكُنْ صَلاتي بَخورًا أَمامَكَ” (مزمور 141: 2)، والمرّ يرمز لإماتة أجسادنا، حيث تقول الكنيسة المقدّسة لعامليها الذين يعملون فيما لله حتى الموت: ” يَدايَ تَقطُرانِ مرًّاً” (نشيد الأناشيد 5:5). وإن سجود هؤلاء الأمم صورة مسبقة للإرسالية العظمى للكرازة بالإنجيل لجميع الامم “اذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم” (متى 28: 19).
ان وحدة الانسانية تتوثق في يسوع المسيح كما يقول بولس الرسول “فلَيسَ هُناكَ يَهودِيٌّ ولا يونانِيّ، لأَنَّكم جَميعًا واحِدٌ في المسيحِ يسوع” (غلاطية 3: 28). فهناك بشرية جديدة واحدة، بناء واحد، حجر زاويته المسيح، جسد واحد راسه المسيح (أفسس 2: 11-22). فإنه مات ليس فقط من أجل أمته، لكن حتى يجمع في الوحدة كل ابناء الله المشتتين أكما تنبأ عنه قيفا رئيس الكهنة” إَنَّ يسوعَ سيَموتُ عَنِ الأُمَّة، ولاعنِ الأُمَّةِ فَقَط، بل لِيَجمَعَ أيضاً شَمْلَ أَبناءِ اللهِ المُشَتَّتين” (يوحنا 11: 50-52). ها هي البشرية الجديدة التي خلصها يسوع، حمل الله بدمه: انها جمهرة من جميع الأمم والأجناس والشعوب والألسنة “رَأَيتُ بَعدَ ذلِكَ جَمعًا كَثيرًا لا يَستَطيعُ أَحَدٌ أَن يُحصِيَه، مِن كُلِّ أُمَّةٍ وقَبيلَةٍ وشَعبٍ ولِسان، وكانوا قائمينَ أَمامَ العَرشِ وأَمامَ الحَمَل” (رؤيا 7: 9-17)، تحييّ في الله ملك الأمم بقولها ” عَظيمَةٌ عَجيبَةٌ أَعْمالُكَ أَيُّها الرَّبُّ الإِلهُ القدير وعدل وحَقٌّ سُبُلُكَ، يا مَلِكَ الأُمَم. مَن تُراه لا يَخافُ اسمَكَ ولا يُمَجِّدُه يا رَبّ؟ فأَنتَ وَحدَكَ قُدُّوس. وستَأتي جَميعُ الأُمَمِ فتَسجُدُ أَمامَكَ لأَنَّ أَحْكامَكَ قد ظَهَرَت” (رؤيا 15: 3-4).
عبرة
ان المجوس لم يجدوا المسيح الا بعد ان تركوا من أجله بلادهم وتحرروا من قيودهم. وقد كلّفوا أنفسهن مشقة البحث عنه. لم يردهم عن مقصدهم لا مال، ولا منصب ولا خوف ولا عناء ولا خدعة الناس او الملك. فاقبلوا وآمنوا وسجدوا وقدَّموا للطفل هداياهم معترفين بان هذا الطفل هو ملك، واله ومخلص للجميع. لنُقدّم للرب المولود الجديد ذهبًا، فنعترف أنه يملك في كل موضع، ولنقدّم له البخور. فنحن نؤمن أنه الله ظهر في الزمان، مع أنه قبل كل زمان. ولنقدّم له المرّ، مؤمنين أنه وإن كان في لاهوته غير قابل للألم، فقد صار قابلًا للموت في جسدنا.
أدرك المجوس أيضا أنّ هيرودس الملك الطاغية ظنّ أنّ يسوع الملك سوف يخلعه عن عرشه الملكيّ، لكن لم يكن يسوع كذلك. فالرّب يسوع المسيح لم يُولد ليتعدّى على مجد الآخرين، بل ليعطينا مجده. لم يُولد ِ ليستولي على مملكة أرضيّة، بل ليهبنا ملكوت السماوات. لم يُولد ليسرق مناصب، بل ليتألّم من خلال الشتائم وسوء المعاملة والعنف التي عاناها. لم يُولد لتُكلّل هامتُه المقدّسة بتاج مرصّع بالأحجار الكريمة، بل بإكليل من شوك. لم يوُلد الرّب يسوع المسيح ليجلس على العروش، بل لكي يُهان ويُصلب. وعليه ليس بالعنف بل بالإيمان يجب أن نبحث عن سيدنا يسوع المسيح الذي يحيا ويملك إلى دهر الدهرين. آمين.

دعاء
إنَّ عيد الغطاس، يا ربنا، هو بدءِ دَعوتك للشعوبِ إلى الإيمان والخلاص. “هَا إنَّكَ تَدعُو أُمَّةً لَم تَكُنْ تَعرِفُهَا، وَإلَيكَ تَسعَى أُمَّةٌ لَم تَكُنْ تَعرِفُكَ” (أشعيا 55: 5). “كَشَفَتُّ خَلاصَكُ وبِرَكَ لِعُيُونِ الأُمَمِ” (مزمور 97: 2). اننا نشكرك يا الهنا الرحيمَ، لأنّك “جعلَتنا أهلاً لأن نشاطرَ القدِّيسِين ميراثَهم في النورِ، هو الذي نجَّانا من سلطانِ الظُّلُماتِ ونقلَنا إلى ملكوتِ ابنِ محبَّتِه” (قولسي 1: 12-13). ولنترنم أخيرا في عيد الغطاس مع صاحب المزاميرِ “جَمِيعُ الأمَمِ الَّتِي صَنَعْتَهَا تَأتِي وَتَسجُدُ أمَامَكَ، أيُّهَا السَّيِّدُ، وَتُمَجِّدُ اسمَكَ” (مزمور 85: 9). و َلْيَكُنِ اللهُ معروفًا ليسَ فقط في اليهوديّةِ، بل وفي المسكونةِ كلِّها، ليكونَ اسمُ الربِّ عظيمًا في كلِّ الأُممِ (مزمور 75: 2).